راشد.. قائد أدهش العالم بعزيمته



‎كان انتقال دبي من مجرد مدينة صغيرة إلى مركز تجاري عالمي، والنأي بها عن عواصف الأزمات الضاربة في المنطقة، يعد ضرباً من ضروب المستحيل، ومهمة لا طاقة لأي كان على تحملها، لكن المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، وبما عرف عنه من عزيمة في مواجهة التحديات وحكمة في صناعة الفرص من التحديات، واستشراف ما سيكون عليه المستقبل، مكن دبي خلال سنين حكمه الممتدة لاثنين وثلاثين عاماً، من تحقيق انطلاقتها في التاريخ الحديث، تأسيساً على ركائز متينة على كل الأصعدة وأبرزها ما يتصل بالتجارة والاقتصاد، فكان راشد لدبي شمسها الدائمة بفكره ومنهجه، ليرفع رايتها ومكانتها من بعده، صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، قائدا طموحا، قاد تقدمها ورفعتها ونهضتها المستمرة بكل همة وإخلاص ونشاط، من أجل مستقبل زاهر لها ولدولة الإمارات وشعبها ولأجيالها القادمة.
‎فقد اهتم المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، بالأسواق ودعم التجار وشجّع الاستثمار التجاري في الإمارة وخطّط لآفاق بعيدة ورؤى مستقبلية لمدينة دبي، واهتم أيضاً بإنشاء الدوائر التي تقدّم خدماتها للسكان وتساهم في تطوير الإمارة كالبلدية والأراضي، والشرطة والجمارك، والمحاكم والكهرباء والمياه، وغيرها من الدوائر.
‎وكانت دبي قبل اكتشاف النفط تعتمد على التجارة وصيد الأسماك واللؤلؤ كمصدر أساسي للدخل، ثم تعرضت تجارة اللؤلؤ لكساد كبير في ثلاثينات القرن الماضي بعد ظهور اللؤلؤ الصناعي الياباني وانتشار استخدامه على نطاق عالمي واسع.
‎وكانت الغالبية العظمى من مواطني دبي يسكنون في بيوت من الطين وسعف النخيل ويعتمدون في غذائهم على التمر والسمك واللبن. وفي حقيقة الأمر كان ذلك هو واقع الحياة في معظم أجزاء منطقة الخليج العربي، قبل أن يشرق فجر صناعة النفط في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية.
‎حجر الأساس
‎وضع راشد بن سعيد حجر الأساس لمدينة دبي الحديثة، واهتم بالعمران والتجارة، واستثمر كل الإمكانيات لمصلحة بلاده، إذ إنه استغلّ النفط في دبي استغلالاً تجاريًا عام 1966م، فأنشأ دائرة خاصة بشؤون النفط، ودائرة للطيران والقضاء، وبدأت التحولات الحقيقية في حياة دبي، وشهدت دبي طفرة تنموية شملت إنشاء الطرق والمطار والموانئ، بهدف تشجيع الخطوط العالمية للمرور بدبي، حتى أصبحت مركزاً تجاريًا بين الشرق والغرب.
‎رمال ومشاريع
‎أنشئت بلدية دبي عام 1957، وينسب لكمال حمزة، أول مدير لبلدية دبي، قوله إن الشيخ راشد اعتاد أن يرسم المشروع على الرمال بعصاه، ثم يطلب من المهندسين أن يعدوا التصميم الهندسي بناءً على الخطوط التي يحددها على الرمال، وكان يشير إلى المكان الذي يريد تشييد طريق أو بناية فيه، وكان المصممون يتتبعون الخطوط التي رسمها.
‎وبدأت مشاريع التنمية ترى النور في إمارة دبي، وبدأ الناس يجنون ثمار التخطيط المدروس بفضل النظرة الثاقبة للشيخ راشد، الذي ما أن ينتهي من تخطيط وتنفيذ مشروع حتى يبدأ بالعمل في مشروع جديد.
‎ميناء يلي آخر
‎اقتنع الشيخ راشد بضرورة إنشاء ميناء حديث كبير الحجم يتناسب مع تطور وتوسع المدينة، فقام بتكليف الخبراء بإعداد دراسة جدوى حول إنشاء ميناء في المياه العميقة، وبحلول عام 1967 كان المهندسون المصممون يقومون برسم مخططات ميناء في منطقة الشندغة التي اختيرت لعمق مياهها ولوجودها على مقربة من مدخل الخور.
‎وقد وُضع التصميم الأول بحيث يتألف الميناء من أربعة أرصفة قادرة على استقبال السفن عابرة المحيطات وناقلات البترول، وأُطلق على الميناء اسم (ميناء راشد) وكانت الأعمال الإنشائية لهذا الميناء هي أكبر أعمال إنشائية شهدتها دبي حتى ذلك الحين، ولكن قبل الانتهاء من جميع أعمال الإنشاء أعطى الشيخ راشد أمراً مفاجئاً بإنشاء ستة عشر رصيفاً بدلاً من أربعة.
‎وعندما افتتح ميناء راشد في أكتوبر عام 1971، أي بعد خمس سنوات من بدء أعمال الحفر الهندسية، تبين أن القرار الذي كان الشيخ راشد قد اتخذه بزيادة عدد الأرصفة كان قراراً عبقرياً بالفعل، فبحلول موعد الافتتاح كانت الأرصفة محجوزة بالكامل.
‎وفي فبراير عام 1976 بدأت مرحلة جديدة في تطوير الميناء، إذ أضيف عشرون رصيفاً بما فيها خمسة أرصفة مخصصة للحاويات تستقبل أكبر السفن حجماً، كما تم توسيع منطقة التخزين إلى ثلاثين ألف متر مربع، بما في ذلك منطقة متطلبات التخزين الخاصة التي أصبحت تضم أربعمائة ثلاجة. كما قامت حكومة دبي بتطوير ميناء الحمرية عام 1975 لكي يخدم سفن البوم والسفن الخشبية التي تنتقل على ساحل الخليج.
‎الحوض الجاف
‎وما كاد الناس يفيقون من الدهشة التي صاحبت قرار المغفور له الشيخ راشد بإنشاء ميناء جبل علي، حتى فاجأهم بعد أسابيع قليلة بمشروع آخر هو بناء الحوض الجاف الذي كان أحد الأحلام التي كانت تراود الشيخ راشد لاستكمال البنية الأساسية لدبي، ونبعت الحاجة لبناء هذا الحوض بعد تزايد الملاحة على ميناء راشد مما جعل وجود حوض لإصلاح السفن وصيانتها أمراً ضرورياً، وقام الشيخ راشد بالتوقيع على اتفاقية إنشائه في أواسط شهر مايو عام 1972 وفي عام 1979 تم افتتاح الحوض الجاف الذي اشتمل على ثلاثة أحواض، يستوعب الواحد منها سفناً حمولتها مليون طن، وأسندت رئاسة تلك المنشأة آنذاك إلى صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد.
‎جداف دبي
‎لعبت النظرة الثاقبة للشيخ راشد دوراً مهماً في تنشيط جداف دبي الذي يقع على بعد 1500 متر تقريباً من جسر القرهود، وهو جزء من خور دبي، فقد كان مدركاً للأهمية الاستراتيجية لهذا الموقع الذي يشكل حوضاً طبيعياً مع نهاية خور دبي، فأصدر مرسوماً أميرياً بإنشاء جداف دبي.
‎وقد افتتح المشروع رسمياً عام 1978م وبلغت تكلفته 45 مليون درهم. وعلى الرغم من أنه أنشئ أساساً ليكون مكاناً لإصلاح وصيانة السفن الخشبية وقوارب الصيد إلا أنه شهد توسعاً سريعاً على مر السنين ليثبت نظرة الشيخ راشد الثاقبة في أهمية هذا الموقع، الذي يمكن الوصول إليه براً عن الطريق الرئيسية المؤدية إلى جسر القرهود في بر دبي، وقد أصبح الجداف حالياً قادراً على استيعاب كافة أنواع السفن، اعتباراً من الزوارق واليخوت الصغيرة ومروراً بسفن البضائع، وانتهاءً بزوارق الإمداد والسفن العاملة في مجال النفط.
‎موانئ ومطار واتصالات
‎في عام 1958 تشكّلت إدارة موانئ دبي. وانطلقت خطط توسعة وتعميق الخور. وأثناء زيارته إلى أوروبا في عام 1959 طلب المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، من شركة: International Aeradio Limited، تنفيذ إنشاءات مطار دبي على أُسس حديثة.
‎وفي 30 سبتمبر 1960 افتتح مطار دبي وصار مركزاً إقليمياً للطيران العالمي. ومن جهة أخرى وضع المغفور له الشيخ راشد مسألة حل مشكلة الإسكان ضمن أولوياته، فقام بإنشاء دائرة الأراضي والأملاك في عام 1960. وأجمع مخططو البناء على اختيار منطقتي السطوة والكرامة كموقعين مناسبين لتشييد مساكن فيهما.
‎وقرر الشيخ راشد إعطاء الأولوية لبناء مساكن منخفضة الإيجار. كما أُنشئت شركة في دبي تدعى: Dubai State Telephone Company، تولت إنشاء خطّ اتصالات سلكية ولاسلكية متكامل بالمدينة. وبدأت الترتيبات العملية لإنشاء مجلس لكهرباء دبي. وتوقيع اتفاقيات التنقيب عن النفط.
‎نفط ومساكن وبنوك
‎كان المغفور له الشيخ راشد بن سعيد يجتمع برجال الأعمال والتجار ويحثهم على بناء المساكن، وكان يقدم القروض لأولئك الذين كانوا بحاجة إلى تمويل للبناء. وقام بتوزيع الأراضي على المواطنين، وكان لهذا النشاط الجم في قطاع الإسكان مردوده الإيجابي في تنشيط الاقتصاد.
‎وفي خطوة تدل على حسن تدبيره وعقليته الاقتصادية أصدر الشيخ راشد في عام 1963 مرسوماً بتأسيس أول بنك وطني، هو بنك دبي الوطني المحدود، برأسمال قدره مليون جنيه إسترليني بعد أن كانت التعاملات المالية والمصرفية حكراً على المصارف الأجنبية. وتواجد في دبي لاحقاً البنك البريطاني للشرق الأوسط، واشترط الشيخ راشد أن يدرج في الاتفاقية بند يلزم البنك البريطاني بتوظيف مواطني دبي.
‎وفي 6 سبتمبر عام 1969، بدأت دبي إنتاج النفط رسمياً. وتم شحن أول ناقلة بالبترول في 22 سبتمبر 1969 بحمولة 180 ألف برميل. وفي التاسع من نوفمبر1970 تم اكتشاف حقل النفط الثاني في جنوب غرب حقل (فتح) وبدأ إنتاجه في عام 1972. وتوالت بعد ذلك عمليات استكشاف النفط في دبي، فيما قام الشيخ راشد بإبرام اثنتي عشرة اتفاقية في الفترة ما بين أكتوبر 1982 ونوفمبر 1983.
‎جبل علي ودوكاب ودوبال
‎من على قمة تل صغير قرب قرية جبل علي، أشار المغفور له الشيخ راشد بن سعيد بيده ناحية الساحل القريب قائلاً: (هناك.. أريد إنشاء الميناء) وقد استغرق الأمر 4 سنوات وتحديداً حتى الثاني من أغسطس عام 1976لينطلق الميناء بكامل طاقته منتصف 1979، وبعد أن بدأ الميناء العمل دخلت التنمية الصناعية في طور التنفيذ على قطعة ارض قريبة من الميناء مساحتها حوالي 5000 كم ونشأت عليها شركات صناعية كبيرة مثل ألمنيوم دبي (دوبال) وشركة غاز دبي (دوغاز) ومصنع للأسمنت ومصنع لأساسيات البناء من الحديد والصلب ومصنع كابلات الكهرباء ومحطة للكهرباء وغيرها من منشآت، وتمت الاستفادة من الحرارة العالية الناتجة عن صناعة الألمنيوم في تشغيل محطة كبرى لتحلية المياه تنتج نحو 35 مليون جالون من المياه العذبة، بتكلفة قيمتها 400 مليون دولار، وهي اليوم واحدة من أهم المؤسسات الصناعية في منطقة الخليج، وفي عام 1977، أمر بإنشاء شركة دبي للكابلات (دوكاب) في المنطقة نفسها بكلفة 22 مليون دولار. وأصبح ميناء جبل علي منطقة حرة، هي الأولى من نوعها في منطقة الخليج.
‎3 دروس في القيادة
‎أثارت العديد من المشاريع العملاقة التي دشنها الشيخ راشد بن سعيد (طيب الله ثراه) دهشة العالم، لأنها كانت أكبر كثيرا من الحاجات القائمة لدبي والمنطقة في وقت تدشينها، ولهذا باتت وسائل الإعلام العالمية تصف هذه المشاريع آنذاك بأنها (فيل أبيض)، وهو تعبير اقتصادي يطلق على المشاريع الضخمة التي تكلف موارد كبيرة ولا يتم تشغيلها إلا بنسبة محدودة من طاقتها الإنتاجية.
‎فقد كانت الصحافة الدولية مثلاً تصف مشروع ميناء جبل علي على أنه «فيل أبيض»، لأن حجمه وطاقته الاستيعابية في وقت إنجازه كان يزيد كثيراً عن احتياجات المنطقة، غير أن السنوات أثبتت بعد نظر الشيخ راشد، حيث تحول الميناء اليوم إلى أحد أهم موانىء العالم ومن أكثرها نشاطاً، وقد لعب دوراً حيوياً في ترسيخ مكانة دبي كمركز دولي متنامي الأهمية للتجارة والخدمات اللوجستية. وينطبق هذا الوضع كذلك على العديد من المشاريع التي أطلقها الشيخ راشد في مرحلة مبكرة من نمو وازدهار دبي.
‎1 واجهت دبي في بدايات تأسيسها معوقات حالت دون تحقيق التنمية، وتمثلت تلك المعوقات في نقص المدخول، وعدم وجود رأس المال، ونقص الموارد، لكن الشيخ راشد كان مصمماً حينها على أن تصبح دبي حاضرة عمرانية ومركزاً تجارياً عالمياً، فكان له ما أراد وتحقق ما تمناه لدبي وأهلها. وتبرز دروس وعبر في الكيفية التي تعامل معها الشيخ راشد في إطلاق المشاريع التنموية على الرغم من نقص الموارد، وأبرزها تلك التحديات التي واجهت توسعة خور دبي بوصفه وسيلة الإمارة في تحقيق النقلة النوعية في مسيرتها الحضارية.
‎ونظراً لمحدودية الأرصفة في الخور فقد كانت المراكب الخشبية التقليدية الكبيرة تضطر إلى الرسو كل ثلاثة جنباً إلى جنب في الخور الذي يبلغ طوله 9 أميال، وكان الشيخ راشد يرى أن الاضطراب الناجم عن قلة عدد الأرصفة تسبب في التهرب من الضرائب. ومن أجل تمويل عمليات المسح قامت حكومة دبي ببيع سندات مالية خاصة بالخور إلى التجار، كما دبرت قرضاً بنصف مليون جنيه استرليني في عام 1958 لتمويل أعمال الحفر.
‎وكان مقدراً أن تصل تكلفة المشروع الى 600 الف جنيه، وهو مبلغ يفوق طاقة الحكومة في ذلك الوقت، فكان أن تفتق ذهن الشيخ راشد عن فكرة السندات المالية تلك، والتي أطلق عليها اسم سندات الخور.
‎ولم يمض وقت طويل حتى كانت الحكومة تجني ثمار المشروع قبل أن يكتمل، فقد أمر الشيخ راشد باستخدام حصيلة الحفر من الصخور والطمي لردم المنطقة المنخفضة على جانبي الخور، وهكذا توفرت أراض جديدة في موقع من أهم مواقع المدينة، وأمر الشيخ راشد ببيع مساحات واسعة من هذه الأراضي، للاستفادة من عائداتها في تغطية جزء من تكاليف تطوير الخور.
‎2 الخطوة التالية التي قرر الشيخ راشد اتخاذها هي إنشاء جسر يربط بين دبي وبر دبي، وبدأت الأشغال في بناء جسر المكتوم ذي الاتجاهين، وانتهى العمل في بناء أول جسر يربط ديرة ببر دبي في عام 1962، وقام الشيخ راشد بافتتاحه في ذلك العام معلناً بداية مرحلة جديدة من الحياة التجارية في المدينة.
‎3 جاء إنشاء مركز دبي التجاري العالمي تجسيداً لرؤية الشيخ راشد، وسعيه لجعل دبي نموذجاً عالمياً يحتذى، وساهم على مدى 4 عقود في دعم التطور الذي شهدته المدينة وترسيخ مكانتها منافساً عالمياً رائداً في مجال سياحة الأعمال والفعاليات والاستثمار.
‎ونجح برج الشيخ راشد المكون من 39 طابقاً (المعروف باسم برج المركز التجاري)، الذي بدأ رحلته كأعلى مبنى في العالم العربي في تحقيق هدفه مع مرور الوقت ليصبح موطناً للشركات الإقليمية والعالمية في مجمع «مركز دبي التجاري العالمي» الذي تبلغ مساحته 1.3 مليون قدم مربعة في قلب دبي.